لودفيغ فتغنشتاين
محاضرة في علم الأخلاق
ترجمة: محسن هواري
هذه النسخة الرقمية مبنية على محاضرة لودفيغ فتغنشتاين "محاضرة عن علم الأخلاق". The Philosophical Review، المجلد 74، العدد 1، يناير 1965، ص 3-12. هذا النص الأصلي ليس ملكية عامة في بلده الأصلي (الولايات المتحدة الأمريكية) ولكن تم إصداره من قبل حاملي حقوق الطبع والنشر بموجب ترخيص المشاع الإبداعي الدولي غير التجاري 4.0؛ وهو ملكية عامة في البلدان والمناطق حيث مدة حقوق الطبع والنشر هي حياة المؤلف بالإضافة إلى 70 عامًا أو أقل. نُشرت هذه الترجمة في ديسمبر 2024 بموجب ترخيص المشاع الإبداعي الدولي 4.0. يقدم المترجم تشكراته الخالصة لمروان محمود على ملاحظاته القيمة.
لودفيغ فتغنشتاين
محاضرة في علم الأخلاق
السيدات والسادة،
قبل أن أبدأ الحديث عن موضوعي، دعوني أقدم بعض الملاحظات التمهيدية. أشعر أني سأواجه صعوبات كبيرة في إيصال أفكاري إليكم وأعتقد أن بعضها قد يتضاءل بذكرها لكم مسبقًا. الصعوبة الأولى، التي لا أحتاج إلى ذكرها إلى حد ما، هي أن الإنجليزية ليست لغتي الأصلية، ولذلك تعبيري سيفتقد للدقة والضبط المرغوب فيه عند التحدث عن موضوع صعب. كل ما في وسعي فعله هو أن أطلب منكم أن تجعلوا مهمتي أسهل بمحاولة بلوغ معنى ما أقول رغم الأخطاء التي سأرتكبها باستمرار في حق قواعد اللغة الإنجليزية.
الصعوبة الثانية التي سأذكرها هي أنه يحتمل أن العديد منكم حضر إلى محاضرتي هذه مع توقعات خاطئة بعض الشيء ولإيضاح هذه النقطة سأقول بعض الكلمات عن دوافع اختياري للموضوع الذي اخترته: عندما شرفني أمينكم السابق بطلب تقديم محاضرة لجمعيتكم، فكرت أولا أنني سأقبل بالتأكيد، ثم فكرت أنه إذا سمحت لي الفرصة أن أتوجه إليكم، فسيكون ذلك لموضوع أحرص أن أشاركه معكم، إذ لن أضيع هذه الفرصة لأقدم لكم محاضرة عن المنطق مثلاً. أسمي هذا ضياعًا، لأنه من أجل أن أشرح لكم قضية علمية سأحتاج إلى سلسلة من المحاضرات وليس مجرد درس لساعة. ثمة بديل آخر يتمثل في أن أقدم لكم ما يسمى بمحاضرة علم شعبوي، تلك المحاضرة التي تهدف إلى جعلكم تعتقدون أنكم تفهمون الشيء الذي لا تفهمونه الآن، وأن ألبي ما أعتبره واحدة من أدنى رغبات الناس المعاصرين، المتمثلة في الفضول السطحي حول الاكتشافات الأخيرة للعلم. رفضت هذه البدائل وقررت أن أحدثكم عن موضوع يبدو لي هامًا بشكل عام، آملا أن يكون بإمكان هذا مساعدتكم على توضيح أفكاركم حوله ( حتى لو توجب عليكم عدم الموافقة تمامًا بخصوص ما سأقوله عن الموضوع).
صعوبتي الثالثة والأخيرة هي التي، في الواقع، تنتمي إلى أطول المحاضرات الفلسفية وهي المتمثلة في كون السامع عاجز عن رؤية السبيل التي تسلكه هذه المحاضرات والمقصد الذي تقود إليه. بمعنى: إما أن السامع سيقول " أفهم كل ما يقوله، لكن بحق السماء، ما الذي في الواقع يقصده"، أو أنه يفكر "أرى أين يريد الوصول، لكن كيف بحق السماء سيصل إليه". مرة أخرى، كل ما يسعني فعله هو الطلب منكم الصبر والأمل أن تبصروا في النهاية السبيل والمقصد.
الآن سأبدأ. موضوعي كما تعلمون، هو علم الأخلاق، وسأتبنى التعريف الذي قدمه البروفسور جورج إدوارد مور George Edward Moore للمصطلح في كتابه مبادئ علم الأخلاق Principia Ethica؛ إذ يقول: "علم الأخلاق هو البحث العام فيما هو خيّر". الآن سأستعمل مصطلح علم الاخلاق بمعنى أوسع قليلا، يحتوي في الواقع على ما أعتقد أن يكون الجزء الأكثر أهمية لما يسمى بعلم الجماليات.
ولكي أجعل الأمر أكثر وضوحا فيما يخص ما أعتبره أن يكون موضوعًا علم الأخلاق، فإني سأضع أمامكم مجموعة من العبارات المترادفة نوعا ما، كل منها تستطيع أن تحل محل التعريف أعلاه. وبهذا، أريد أن أولد لديكم النتيجة التي ولدها غالتون Galton حينما أخذ عددا من الصور لوجوه مختلفة على نفس اللوحة الفوتوغرافية لغاية الحصول على فكرة حول الخصائص النمطية المشتركة بين هذه الوجوه. ومن خلال إظهار هذه الصورة المجمّعة لكم، أستطيع أن أجعلكم ترون ما هو الوجه الصيني النمطي؛ وإذا نظرتم إلى صف المترادفات التي أضعها أمامكم، فسوف تستطيعون، كما آمل ذلك، رؤية السمات المميزة التي تشترك فيها جميعا وتلك هي السمات المميزة لعلم الأخلاق. الآن بدلاً من القول إن "علم الأخلاق هو البحث العام فيما هو خيّر"، كان بإمكاني القول إن علم الأخلاق هو البحث فيما له قيمة أو فيما هو هام بالفعل. أو أيضا كان بإمكاني القول إن علم الأخلاق هو البحث عن معنى الحياة أو ما يجعل الحياة تستحق أن تعاش، أو عن الطريقة المثلى للعيش. أعتقد لو نظرتم إلى كل هذه الجمل، فسوف تكون لديكم فكرة تقريبية عما يعنى به علم الأخلاق.
الآن، أول ما يخطر على بال الشخص أمام هذه العبارات أن كل واحدة منها مستعملة بمعنيين مختلفين للغاية. أسميهما المعنى التقليدي أو النسبي من جهة، والمعنى الأخلاقي أو المطلق من جهة أخرى. لو قلت، مثلا، أن هذا الكرسي جيد، فهذا يعنى أن هذا الكرسي يؤدي غاية محددة سلفا، وأن كلمة جيد هنا لها معنى فقط بقدر ما كانت تلك الغاية قد حُددت سلفا لهذا الأمر. وفي الواقع كلمة جيد بمعناها النسبي تعني ببساطة الإحالة إلى نوع من المقياس المحدد سلفا. بالتالي عندما نقول إن هذا الإنسان عازف بيانو جيد، فإننا نعني أنه يستطيع أن يعزف مقطوعات على درجة من الصعوبة وعلى درجة من المهارة. وبصفة مماثلة إذا قلت أنه من المهم لي أن لا يصيبني الزكام، فإني أعني أن الإصابة بالزكام تنتج عددا من الاختلالات التي يمكن وصفها في حياتي اليومية، وإذا قلت أن هذه هي السبيل الجيدة أقصد أنها السبيل الجيدة بالنسبة لنوع من الغايات.
مستعملة بهذا المعنى، لا تطرح هذه العبارات أي مشكل صعب أو عميق. لكن ليس بهذه الصفة يستعملها علم الأخلاق. لنفترض أنه بإمكاني لعب التنس وأن أحدكم شاهدني ألعب وقال لي "حسنًا، طريقة لعبك سيئة" ولنفترض أنني أجبته "أعلم، أنا ألعب بطريقة سيئة لكن لا أريد أن ألعب بأحسن منها"، وقال، وهذا كل ما يمكنه قوله "حسنًا، جيد". لكن لنفترض أنني أخبرت أحدكم كذبة كبيرة وأنه أتى إلي وقال لي "إنك تتصرف بفظاظة" وأني أجبته "أعلم أني أتصرف بسوء لكن في الوقت نفسه لا أريد أن أتصرف أحسن من ذلك"، فهل بإمكانه الإجابة "حسنًا، جيد"؟ قطعًا لا؛ سيجيب "جيد، واجب عليك أن ترغب في التصرف على نحو حسن". هنا لديكم حكم قيمة مطلق، في حين أن المثال الأول كان حكمًا من الأحكام النسبية.
ماهية هذا الاختلاف تبدو ببداهة كالتالي: كل حكم قيمة نسبية هو حالة وقائع بسيطة وبإمكانها بالتالي أن تكون مصاغة بصفة تفقد أي مظهر حكم قيمة. بدل القول "هذا هو الطريق الجيد إلى غرانشتر"، كان بإمكاني أيضا القول "هذا هو الطريق الصحيح الذي يجب أن تسلكه إذا أردت أن تصل إلى غرانشستر في وقت قصير" ؛ "هذا الرجل عداء جيد" تعني ببساطة أنه يقطع عددا من الأميال خلال عدد من الدقائق، وهلم جرا.
الآن ما أود ادعائه، رغم كل أحكام القيمة النسبية التي يمكن أن تظهر أنها بيان للوقائع فحسب، أنه لا يمكن لبيان واقعة أن يكون أو يستلزم حكم قيمة مطلق. دعوني أشرح هذا: لنفترض أن أحدا منكم عالم بكل شيء وبالتالي عارف بكل حركات الأبدان في العالم، الأموات أو الأحياء، وأنه أيضا عارف بكل الحالات الذهنية لكل الكائنات البشرية التي عاشت، ولنفترض أن ذلك الشخص يكتب كل ما يعرفه في كتاب كبير؛ هذا الكتاب سيحتوي على الوصف الكامل للعالم كله؛ إذًا هذا الكتاب لا يحتوي شيئا مما نسميه حكم أخلاقي ولا أي شيء يمكن أن يستلزم منطقيا ذلك الحكم. أكيد سيحتوي كل الأحكام النسبية للقيمة وكل القضايا العلمية الصادقة وفي الواقع كل القضايا الصادقة القابلة للصياغة. لكن كل هذه الوقائع الموصوفة ستكون، بهذا التعبير، عبارات على المستوى نفسه، وبنفس الحال كل القضايا تقع في المستوى نفسه. لا توجد قضايا، بالمعنى المطلق، سامية، مهمة أو عادية.
الآن، قد يوافقني البعض منكم ويتذكروا قول هاملت: "لا شيء جيد أو سيء، لكن التفكير هو الذي يجعله كذلك ". لكن قد يقودنا هذا أيضا لسوء الفهم. يبدو أن ما يقوله هاملت يستلزم أن الخير والشر، بالرغم من أنهما ليسا ميزات العالم الخارج عنا، صفات لحالاتنا الذهنية. لكن ما أود قوله هو أن الحالة الذهنية، بقدر ما نعني بهذا التعبير الواقعة التي نستطيع وصفها، ليست بالجيدة ولا بالسيئة بالمعنى الأخلاقي. لو نقرأ مثلا في كتاب عالمنا وصفًا لجريمة قتل بكل تفاصيلها الفيزيائية والسيكولوجية، فإن الوصف البسيط لهذه الوقائع لا يحتوي على أي شيء يمكننا أن نسميه قضية أخلاقية. القتل سيوضع تماما في نفس مستوى أي حادث آخر، مثلا سقوط حجر. أكيد قراءة الوصف قد تسبب لنا التعب أو الغضب أو أي إحساس آخر، أو يمكننا أيضا أن نرى التعب أو الغضب لدى الآخرين عند قراءة الوصف، لكن ستكون هناك وقائع، ووقائع، ووقائع، لكن ليس ثمة أخلاق.
ينبغي علي القول إنني لو أتأمل فيما يجب حقا أن يكون عليه علم الأخلاق، إذا وجد علم كذلك، فإن النتيجة تبدو لي جلية. يبدو لي من الواضح أن لا شيء مما يمكننا التفكير فيه أو قوله يمكن أن يكون هو علم الأخلاق. إننا لا نستطيع أن نكتب كتابا علميا يكون موضوعه متساميًا في ماهيته وفوق كل الموضوعات الأخرى. لا أستطيع سوى أن أصف شعوري بالمجاز التالي، وهو إذا ما كتب شخص كتابا عن علم الأخلاق وكان حقا كتابا عن علم الأخلاق، فإن هذا الكتاب سيهدم بتفجير كل الكتب الأخرى في العالم. كلماتنا المستخدمة بالطريقة التي نستخدمها في العلوم تعدّ أوعية قادرة على احتواء ونقل فقط الدلالات والمعاني، أي الدلالات والمعاني الطبيعية.
علم الأخلاق هو شيء فوق الطبيعي وكلماتنا لا تستطيع أن تعبر سوى عن وقائع؛ كالكأس لا تستطيع سوى أن تحتوي على كأس من الماء حتى لو صببت فيها غالون من الماء. قلت إنه في ما يتعلق بالوقائع والقضايا، لا يوجد سوى القيمة النسبية والخير النسبي والحق النسبي وما إلى ذلك. السبيل الجيدة هي السبيل التي تقود إلى وجهة محددة سلفا على نحو محكم، وواضح بالنسبة لنا أنه لا معنى للكلام عن سبيل جيدة خارج إطار تلك الوجهة المحددة سلفا. الآن لنرى ماذا نريد القول باستخدام عبارة "السبيل الجيدة مطلقا". أعتقد أنها السبيل التي يجب على الجميع اتباعها، ومع النظر إليها بضرورة منطقية ، فإنه واجب سلوكها وسيكون عيبًا ألا تسلكها. وكذلك الخير المطلق، لو كان حالة أشياء موصوفة سيكون الخير الذي على الجميع فعله بالضرورة، بغض النظر عن أذواقهم وميولهم، وعدم فعله يبعث الشعور بالذنب. وأريد القول إن حالة الأشياء تلك تعدّ وهمًا. فلا حالة أشياء لها في ذاتها ما أود تسميته السلطة القسرية للحكم المطلق.
وعليه، ماذا نملك نحن الذين نميل، مثلي أنا، إلى استعمال عبارات من قبيل "الخير المطلق"، "القيمة المطلقة"، وما إلى ذلك. ماذا نملك في ذهننا وما الذي نحاول التعبير عنه؟ كلما حاولت أن أجعل هذا واضحا لنفسي يكون من العادي أن أتذكر الحال التي أستخدم فيها بلا شك هذه العبارات، فأجد نفسي بالتالي في الحالة التي ستكونون فيها لو كنت لأقدم لكم، مثلا، محاضرة عن علم نفس الرغبة. ما ستفعلونه هو محاولة تذكر بعض الحالات النموذجية التي شعرتم دائما بالرغبة فيها. لأنه، عند وضع تلك الحالات بالاعتبار، فإن كل ما سأقوله لكم سيصبح حالا ملموسا لديكم، وبالتالي، قابلا للمراقبة. بإمكان أحدهم ربما الاختيار كمثال الإحساس الذي ينتابه وهو في نزهة يوم صيفي مشمس. وأنا كذلك في حالة مماثلة إذا أردت أن أثبت في ذهني معنى ما أقصد حينما أقول قيمة أخلاقية أو مطلقة.
وهنا، في حالتي يحدث دائما أن فكرة عن تجربة خاصة تتمثل لي، والتي هي بمعنى ما، تجربتي بامتياز، ولذلك السبب، وأنا أحدثكم الآن، سأستخدم هذه التجربة كمثالي الأول والأهم. (وكما قلت من قبل، الأمر يتعلق هنا بقضية شخصية كليا وبإمكان الآخرين إيجاد أمثلة أكثر حسما). سأصف لكم هذه التجربة كي أسمح لكم، إذا أمكن، بتذكر تجارب مماثلة، فيكون لبحثنا ميدانا مشتركا. أعتقد أن أحسن طريقة لوصفها هي القول بأنه في كل مرة أقوم بهذه التجربة أندهش من وجود العالم. فأميل بعدها لاستعمل جمل على هذا النحو: "كم هو استثنائي أن يكون لأي شيء وجود" أو أيضا "كم هو استثنائي أن يكون العالم موجودا". أود حالا ذكر تجربة أخرى أعرفها جيدا والتي ربما اعتادها البعض منكم، وهي ما يمكن تسميته تجربة الشعور مطلقا بالأمان. أفكر في تلك الحالة الذهنية التي يميل المرء فيها لقول: "أنا في أمان، لا شيء بإمكانه إيذائي مهما حدث ".
الآن اسمحوا لي بالتأمل في هذه التجارب، لأنها تمثل، حسب اعتقادي، الخصائص نفسها التي نحاول توضيحها. أول شيء يجب أن أقوله هو إن التعبير اللفظي الذي نقدمه لهذه التجارب هو من قبيل اللغو. إذا قلت :"أندهش من وجود العالم" فأنا بصدد إساءة استعمال اللغة. إسمحوا لي بشرح هذه النقطة: هناك معنى جيد وواضح جدا في القول إنني أندهش أن يكون الشيء واقعًا، نفهم جميعا ماذا يعني قول إنني أندهش من حجم هذا الكلب الذي سيكون أكبر من أي كلب آخر رأيته من قبل، أو حول أي شيء يكون في المعنى المشترك للمصطلح استثنائيًا. في كل هذه الحالات، أندهش أن يكون الشيء واقعًا، وهو الشيء الذي أستطيع أيضا تصوره على أنه الواقع. أندهش من حجم هذا الكلب لأنني أستطيع تصور كلب بحجم آخر، مثلا بحجم عادي لا يدهشني. القول "أندهش أن يكون هذا أو ذاك واقعًا" له فقط معنى إذا استطعت أيضا تخيل أنه ليس بواقع. بهذا المعنى، بإمكان أحدهم أن يندهش لرؤية منزل لم يزره منذ مدة طويلة، والذي كان يتصور أنه هُدم. لكن من اللغو قول إني أندهش من وجود العالم، لكوني لا أستطيع تصور عدم وجوده.
أستطيع طبعا أن أندهش كون العالم من حولي كما هو. إذا كانت لدي مثلا تلك التجربة خلال نظري إلى السماء الزرقاء، فبإمكاني الاندهاش من كون السماء زرقاء بالمقابل مع حال أن تكون مليئة بالغيوم. لكن ليس هذا ما أريد قوله. أندهش من السماء في أي حال. بإمكان أحدهم القول إن ما يدهشني هو نوع من تحصيل الحاصل على نحو منطقي، وهو كون السماء زرقاء أو غير زرقاء. رغم ذلك فإنه من اللغو قول إن أحدا يندهش من تحصيل الحاصل.
الآن نفس الشيء ينطبق على التجربة الأخرى التي أشرت إليها، وهي المتعلقة بالأمان المطلق. أنا في أمان داخل غرفتي، أي لا أكون معرضا لخطر الصدم من طرف حافلة. أنا في أمان عندما لا أكون معرضا للإصابة بالسعال الديكي الذي كان قد أصابني. أن نكون في أمان يعني عموما استحالة التعرض فيزيائيا لبعض الأمور وبالتالي بهذا المعنى سيكون من اللامعنى القول إنني في أمان مهما حدث. هنا أيضا ثمة سوء استعمال لعبارة "في أمان"، مثل سوء استعمال كلمات "وجود" أو "اندهاش" في المثال الآخر.
الآن، أود أن أجعلكم تفهمون أن نوعا من سوء استعمال اللغة يميز كل عباراتنا الأخلاقية والدينية. كل هذه العبارات تبدو للوهلة الأولى ببساطة مجرد تشبيهات. بذلك يبدو أنه عندما نستخدم كلمة صحيح بمعنى أخلاقي، رغم أن ما نقصده ليس "صحيح " بالمعنى العادي، إلا أنه شيء مشابه، وحين نقول "إنه شخص جيد"، رغم أن الكلمة هنا لا تعني ما تعنيه في الجملة "إنه لاعب كرة جيد"، فإنه يبدو لنا أن هناك بعض التشابه. وحينما نقول "حياة هذا الشخص لها قيمة" فإننا لا نقصدها بنفس المعنى الذي نستخدمه حين نريد الحديث عن بعض المجوهرات ذات القيمة، غير أنه يبدو أن هناك نوعًا من التشابه.
الآن كل المصطلحات الدينية تبدو بهذا المعنى مستخدمة كتشبيهات أو بطريقة مجازية. لأنه عندما نتحدث عن الله ونقول إنه يرى كل شيء وعندما نسجد ونصلي له فإن كل عباراتنا وأفعالنا تبدو أنها جزء من مجاز كبير يمثل الله ككائن بشري له سلطة كبيرة نحاول كسب فضله وما إلى ذلك. لكن هذا المجاز يصف أيضا التجارب التي أحيل إليها. لأن الأولى منها، كما أعتقد، هي بالضبط التي يرجع إليها الناس حينما يقولون إن الله خلق العالم؛ وتجربة الأمان كانت موصوفة بفكرة أننا نشعر بالأمان بين يدي الله. تجربة أخرى من نفس النمط وهي الشعور بالذنب، ومرة أخرى هذا كان موصوفا بالجملة التي مفادها أن الله يرفض سلوكنا. لذلك في اللغة الأخلاقية والدينية نبدو أننا نستخدم دائما التشبيهات. لكن التشبيه يجب أن يكون دائما تشبيه لشيء. وإذا استطعت وصف ذلك الشيء بواسطة التشبيه وجب علي أيضا القدرة على ترك التشبيه ووصف الوقائع بدونه. الآن في حالتنا، بمجرد أن نحاول ترك التشبيه وتبني ببساطة الوقائع الموجودة وراءه، نرى عدم وجود تلك الوقائع. وبذلك ما يبدو للوهلة الأولى تشبيها، يظهر الآن مجرد لغو.
الآن، التجارب الثلاث التي ذكرتها لكم ( ويمكن لي إضافة أخرى ) تبدو للذين عايشوها، مثلا لي أنا، بمعنى معين قيمة جوهرية، مطلقة . لكن عندما أقول بأنها تجارب، أقول طبعا أيضا أنها وقائع؛ لها وجود في مكان وزمان ودامت لوقت معين فهي بالنتيجة قابلة للوصف. وبحسب ما قلته يجب أن أقبل أنه من اللغو القول إنها ذات قيمة مطلقة. وسأضيف وضوحا أكثر لما أريد إظهاره بالقول إن: "من المفارقة أن تحظى تجربة أو واقعة ما قيمة خارقة للطبيعة".
مع ذلك سأحاول حل هذه المفارقة بالطريقة التالية. اسمحوا لي مرة أخرى أن أفكر في تجربتنا الأولى المتعلقة بالدهشة من وجود العالم ودعوني أصفها بطريقة مختلفة نوعا ما؛ نعرف جميعا ما يدعى معجزة في الحياة اليومية. الأمر يتعلق طبعا بحدث لم نر مثله أبدًا. الآن، لنفترض أن حدث كهذا قد طرأ. خذوا مثلا حالة يجد فيها أحدكم نفسه برأس أسد يزأر. أكيد سيوصف هذا أنه شيء غير عادي، كما أتصور. الآن وبمجرد تعافينا من مفاجئتنا، فإن ما أقترحه هو إحضار طبيب ليجري تحقيقا علميا عن الحالة، وقد نطلب تشريحها، لولا خشية التسبب بالأذى له. ما شأن المعجزة حينها؟
لأنه من الواضح إننا عندما ننظر إلى الشيء بهذه الطريقة فإن كل ما هو إعجازي سيزول؛ إلا إذا كان ما نريد قوله بهذا المصطلح هو ببساطة أن واقعة لم يتم تفسيرها بعد بواسطة العلم، ما يعني بدوره أننا فشلنا لحد الآن في جمع هذه الواقعة مع وقائع أخرى في إطار نسق علمي. هذا يبين أنه من غير المعقول قول "أثبت العلم عدم وجود المعجزات ". الحقيقة هي أن الطريقة العلمية للنظر إلى الواقعة ليست طريقة النظر إليها كونها معجزة. لأنه بإمكانكم تصور أية واقعة تريدون مهما كانت، فلن تكون إعجازية في ذاتها بالمعنى المطلق للمصطلح. لأننا نرى أنه بإمكاننا استخدام كلمة "معجزة " بالمعنى النسبي أو بالمعنى المطلق. وسأصف الآن تجربة الدهشة من وجود العالم بالقول: هي تجربة النظر إلى العالم كمعجزة .
الآن سأميل الى القول إن العبارة الجيدة في اللغة فيما يتعلق بمعجزة وجود العالم التي رغم ذلك ليست قضية في اللغة، هي وجود اللغة ذاتها. لكن ماذا يعني أن ندرك أحيانا هذه المعجزة وأحيانا لا؟ لأن كل ما قلته مرورا من عبارة الإعجاز بواسطة اللغة إلى التعبير عنه بواسطة وجود اللغة، كل ما قلته هو مرة أخرى أننا لا نستطيع الإفصاح عما نريد الإفصاح عنه وأن كل ما نقوله عن الإعجاز بصفة مطلقة يبقى من اللغو.
الآن الإجابة عن كل هذا ستبدو واضحة للعديد منكم. ستقولون لي: لكن إذا كانت بعض التجارب تستميلنا دائما إلى إعطائها الميزة التي نسميها قيمة وأهمية مطلقة أو أخلاقية، فإن هذا يظهر ببساطة أن ما نريد التعبير عنه بهذه الكلمات هو ليس اللغو، وأنه بعد كل ما نريد التعبير عنه عندما نقول إن تجربة ما مطلقة هو ببساطة واقعة مثل الوقائع الأخرى وأن كل هذا يختزل إلى واقع كوننا لم ننجح بعد في إيجاد التحليل المنطقي لما نريد التعبير عنه بعباراتنا الأخلاقية والدينية. الآن كلما وجّه هذا ضدي، فسأرى بوضوح فورا، كلمح البصر، أنه ليس فقط لا يوجد أي وصف بإمكاني التفكير فيه سيكون قابلا للتطبيق على ما أريد قوله بالقيمة المطلقة، بل أيضا أنني أرفض كل وصف هام قابل للاقتراح من أي كان، منذ البداية وفقًا لأهميته.
بمعنى: أرى الآن أن هذه العبارات عبارة عن لغو، وأنها لم تكن كذلك لكوني لم أجد العبارات الصحيحة، إنما لكون اللغو هو ماهيتها. إن كل ما أردته من هذه الأعمال هو أن أتجاوز حدود العالم، أي أن أتجاوز حدود اللغة. إن كل ما أردته من هذه الأعمال، وأعتقد أن كل من حاول الكتابة أو التحدث عن الأخلاق أو الدين أراده، هو الصدام مع حدود اللغة.
وهذا الصدام ضد جدران قفصنا أمر ميؤوس منه تماماً. إن علم الأخلاق لا يمكن أن يكون علماً ما دام ينبع من الرغبة في قول شيء ما عن المعنى النهائي للحياة، والخير المطلق، والقيمة المطلقة. إن ما يقوله لا يضيف إلى معرفتنا بأي حال من الأحوال. ولكنه يعكس اتجاهاً في العقل البشري لا يسعني إلا أن أحترمه احتراماً عميقاً، وألا أسخر منه طيلة حياتي.