محاضرة في علم الأخلاق: Difference between revisions

no edit summary
No edit summary
No edit summary
Line 10: Line 10:
|author=لودفيغ فتغنشتاين
|author=لودفيغ فتغنشتاين
|translator=<span dir="rtl">ترجمة: محسن هواري</span>
|translator=<span dir="rtl">ترجمة: محسن هواري</span>
|notes=<p dir="rtl" style="text-align: right;">هذه النسخة الرقمية مبنية على محاضرة لودفيغ فتغنشتاين "محاضرة عن علم الأخلاق". The Philosophical Review، المجلد 74، العدد 1، يناير 1965، ص 3-12. هذا النص الأصلي ليس ملكية عامة في بلده الأصلي (الولايات المتحدة الأمريكية) ولكن تم إصداره من قبل حاملي حقوق الطبع والنشر بموجب Creative Commons Attribution - NonCommercial 4.0 International؛ وهو ملكية عامة في البلدان والمناطق حيث مدة حقوق الطبع والنشر هي حياة المؤلف بالإضافة إلى 70 عامًا أو أقل. نُشرت هذه الترجمة في ديسمبر 2024 بموجب ترخص المشاع الإبداعي الدولي 4.0. يقدم المترجم تشكراته الخالصة لمروان محمود على ملاحظاته القيمة.</p>
|notes=<p dir="rtl" style="text-align: right;">هذه النسخة الرقمية مبنية على محاضرة لودفيغ فتغنشتاين "محاضرة عن علم الأخلاق". The Philosophical Review، المجلد 74، العدد 1، يناير 1965، ص 3-12. هذا النص الأصلي ليس ملكية عامة في بلده الأصلي (الولايات المتحدة الأمريكية) ولكن تم إصداره من قبل حاملي حقوق الطبع والنشر بموجب المشاع الإبداعي الدولي غير التجاري 4.0 ؛ وهو ملكية عامة في البلدان والمناطق حيث مدة حقوق الطبع والنشر هي حياة المؤلف بالإضافة إلى 70 عامًا أو أقل. نُشرت هذه الترجمة في ديسمبر 2024 بموجب ترخص المشاع الإبداعي الدولي 4.0. يقدم المترجم تشكراته الخالصة لمروان محمود على ملاحظاته القيمة.</p>
}}
}}


Line 18: Line 18:
السيدات والسادة،
السيدات والسادة،


قبل أن أبدأ الحديث عن موضوعي،  دعوني أقدم بعض الملاحظات التمهيدية. أشعر أني سأواجه صعوبات كبيرة في إيصال أفكاري إليكم وأعتقد أن بعضها قد يتضاءل بذكرها لكم مسبقًا. الصعوبة الأولى، التي لا أحتاج إلى ذكرها إلى حد ما، هي أن الإنجليزية ليست لغتي الأصلية، ولذلك تعبيري سيفتقد للدقة والضبط المرغوب فيه عند التحدث عن موضوع صعب. كل ما في وسعي فعله هو أن أطلب منكم أن تجعلوا مهمتي أسهل بمحاولة بلوغ معنى ما أقول رغم الأخطاء التي سأرتكبها باستمرار في حق قواعد اللغة الإنجليزية.
قبل أن أبدأ الحديث عن موضوعي، دعوني أقدم بعض الملاحظات التمهيدية. أشعر أني سأواجه صعوبات كبيرة في إيصال أفكاري إليكم وأعتقد أن بعضها قد يتضاءل بذكرها لكم مسبقًا. الصعوبة الأولى، التي لا أحتاج إلى ذكرها إلى حد ما، هي أن الإنجليزية ليست لغتي الأصلية، ولذلك تعبيري سيفتقد للدقة والضبط المرغوب فيه عند التحدث عن موضوع صعب. كل ما في وسعي فعله هو أن أطلب منكم أن تجعلوا مهمتي أسهل بمحاولة بلوغ معنى ما أقول رغم الأخطاء التي سأرتكبها باستمرار في حق قواعد اللغة الإنجليزية.


الصعوبة الثانية التي سأذكرها هي أنه يحتمل أن العديد منكم حضر إلى محاضرتي هذه مع توقعات خاطئة بعض الشيء ولإيضاح هذه النقطة سأقول بعض الكلمات عن دوافع اختياري للموضوع الذي اخترته: عندما شرفني أمينكم السابق بطلب تقديم محاضرة لجمعيتكم، فكرت أولا أنني سأقبل بالتأكيد، ثم فكرت أنه إذا سمحت لي الفرصة أن أتوجه إليكم، فسيكون ذلك لموضوع أحرص أن أشاركه معكم، إذ لن أضيع هذه الفرصة لأقدم لكم محاضرة عن المنطق مثلاً. أسمي هذا ضياعًا، لأنه من أجل أن أشرح لكم قضية علمية سأحتاج إلى سلسلة من المحاضرات وليس مجرد درس لساعة. ثمة بديل آخر يتمثل في أن أقدم لكم ما يسمى بمحاضرة علم شعبوي، تلك المحاضرة التي تهدف إلى جعلكم تعتقدون أنكم تفهمون الشيء الذي لا تفهمونه الآن، وأن ألبي ما أعتبره واحدة من أدنى رغبات الناس المعاصرين، المتمثلة في الفضول السطحي حول الاكتشافات الأخيرة للعلم. رفضت هذه البدائل وقررت أن أحدثكم عن موضوع يبدو لي هامًا بشكل عام، آملا أن يكون بإمكان هذا مساعدتكم على توضيح أفكاركم حوله ( حتى لو توجب عليكم عدم الموافقة تمامًا بخصوص ما سأقوله عن الموضوع).
الصعوبة الثانية التي سأذكرها هي أنه يحتمل أن العديد منكم حضر إلى محاضرتي هذه مع توقعات خاطئة بعض الشيء ولإيضاح هذه النقطة سأقول بعض الكلمات عن دوافع اختياري للموضوع الذي اخترته: عندما شرفني أمينكم السابق بطلب تقديم محاضرة لجمعيتكم، فكرت أولا أنني سأقبل بالتأكيد، ثم فكرت أنه إذا سمحت لي الفرصة أن أتوجه إليكم، فسيكون ذلك لموضوع أحرص أن أشاركه معكم، إذ لن أضيع هذه الفرصة لأقدم لكم محاضرة عن المنطق مثلاً. أسمي هذا ضياعًا، لأنه من أجل أن أشرح لكم قضية علمية سأحتاج إلى سلسلة من المحاضرات وليس مجرد درس لساعة. ثمة بديل آخر يتمثل في أن أقدم لكم ما يسمى بمحاضرة علم شعبوي، تلك المحاضرة التي تهدف إلى جعلكم تعتقدون أنكم تفهمون الشيء الذي لا تفهمونه الآن، وأن ألبي ما أعتبره واحدة من أدنى رغبات الناس المعاصرين، المتمثلة في الفضول السطحي حول الاكتشافات الأخيرة للعلم. رفضت هذه البدائل وقررت أن أحدثكم عن موضوع يبدو لي هامًا بشكل عام، آملا أن يكون بإمكان هذا مساعدتكم على توضيح أفكاركم حوله ( حتى لو توجب عليكم عدم الموافقة تمامًا بخصوص ما سأقوله عن الموضوع).


صعوبتي  الثالثة والأخيرة هي التي، في الواقع، تنتمي إلى أطول المحاضرات الفلسفية وهي المتمثلة في كون السامع عاجز عن رؤية السبيل التي تسلكه هذه المحاضرات والمقصد الذي تقود إليه. بمعنى: إما أن السامع سيقول " أفهم كل ما يقوله، لكن بحق السماء، ما الذي في الواقع يقصده"، أو أنه يفكر "أرى أين يريد الوصول، لكن كيف بحق السماء سيصل إليه". مرة أخرى، كل ما يسعني فعله هو الطلب منكم الصبر والأمل أن تبصروا في النهاية السبيل والمقصد.
صعوبتي الثالثة والأخيرة هي التي، في الواقع، تنتمي إلى أطول المحاضرات الفلسفية وهي المتمثلة في كون السامع عاجز عن رؤية السبيل التي تسلكه هذه المحاضرات والمقصد الذي تقود إليه. بمعنى: إما أن السامع سيقول " أفهم كل ما يقوله، لكن بحق السماء، ما الذي في الواقع يقصده"، أو أنه يفكر "أرى أين يريد الوصول، لكن كيف بحق السماء سيصل إليه". مرة أخرى، كل ما يسعني فعله هو الطلب منكم الصبر والأمل أن تبصروا في النهاية السبيل والمقصد.


الآن سأبدأ. موضوعي كما تعلمون، هو علم الأخلاق، وسأتبنى التعريف الذي قدمه البروفسور جورج إدوارد مور George Edward Moore للمصطلح في كتابه مبادئ علم الأخلاق Principia Ethica؛ إذ يقول: "علم الأخلاق هو البحث العام فيما هو خيّر". الآن سأستعمل مصطلح علم الاخلاق بمعنى أوسع قليلا، يحتوي في الواقع على ما أعتقد أن يكون الجزء الأكثر أهمية لما يسمى بعلم الجماليات.  
الآن سأبدأ. موضوعي كما تعلمون، هو علم الأخلاق، وسأتبنى التعريف الذي قدمه البروفسور جورج إدوارد مور George Edward Moore للمصطلح في كتابه مبادئ علم الأخلاق Principia Ethica؛ إذ يقول: "علم الأخلاق هو البحث العام فيما هو خيّر". الآن سأستعمل مصطلح علم الاخلاق بمعنى أوسع قليلا، يحتوي في الواقع على ما أعتقد أن يكون الجزء الأكثر أهمية لما يسمى بعلم الجماليات.  


ولكي أجعل الأمر أكثر وضوحا فيما يخص ما أعتبره أن يكون موضوعًا علم الأخلاق، فإني سأضع أمامكم مجموعة من العبارات المترادفة نوعا ما، كل منها تستطيع أن تحل محل التعريف أعلاه. وبهذا، أريد أن أولد لديكم النتيجة التي ولدها غالتون Galton حينما أخذ عددا من الصور لوجوه مختلفة على نفس اللوحة الفوتوغرافية لغاية الحصول على فكرة حول الخصائص النمطية المشتركة بين هذه الوجوه. ومن خلال إظهار هذه الصورة المجمّعة لكم، أستطيع أن أجعلكم ترون ما هو الوجه الصيني النمطي؛ وإذا نظرتم إلى صف المترادفات التي أضعها أمامكم، فسوف تستطيعون، كما آمل ذلك، رؤية السمات المميزة التي تشترك فيها جميعا وتلك هي السمات المميزة لعلم الأخلاق. الآن بدلاً من القول إن "علم الأخلاق هو البحث العام فيما هو خيّر"، كان بإمكاني القول إن علم الأخلاق هو البحث فيما له قيمة أو فيما هو هام بالفعل. أو أيضا كان بإمكاني القول إن علم الأخلاق هو البحث عن معنى الحياة أو ما يجعل الحياة تستحق أن تعاش،  أو عن الطريقة المثلى للعيش. أعتقد لو نظرتم إلى كل هذه الجمل، فسوف تكون لديكم فكرة تقريبية عما يعنى به علم الأخلاق.
ولكي أجعل الأمر أكثر وضوحا فيما يخص ما أعتبره أن يكون موضوعًا علم الأخلاق، فإني سأضع أمامكم مجموعة من العبارات المترادفة نوعا ما، كل منها تستطيع أن تحل محل التعريف أعلاه. وبهذا، أريد أن أولد لديكم النتيجة التي ولدها غالتون Galton حينما أخذ عددا من الصور لوجوه مختلفة على نفس اللوحة الفوتوغرافية لغاية الحصول على فكرة حول الخصائص النمطية المشتركة بين هذه الوجوه. ومن خلال إظهار هذه الصورة المجمّعة لكم، أستطيع أن أجعلكم ترون ما هو الوجه الصيني النمطي؛ وإذا نظرتم إلى صف المترادفات التي أضعها أمامكم، فسوف تستطيعون، كما آمل ذلك، رؤية السمات المميزة التي تشترك فيها جميعا وتلك هي السمات المميزة لعلم الأخلاق. الآن بدلاً من القول إن "علم الأخلاق هو البحث العام فيما هو خيّر"، كان بإمكاني القول إن علم الأخلاق هو البحث فيما له قيمة أو فيما هو هام بالفعل. أو أيضا كان بإمكاني القول إن علم الأخلاق هو البحث عن معنى الحياة أو ما يجعل الحياة تستحق أن تعاش، أو عن الطريقة المثلى للعيش. أعتقد لو نظرتم إلى كل هذه الجمل، فسوف تكون لديكم فكرة تقريبية عما يعنى به علم الأخلاق.


الآن، أول ما يخطر على بال الشخص أمام هذه العبارات أن كل واحدة منها مستعملة بمعنيين مختلفين للغاية. أسميهما المعنى التقليدي أو النسبي من جهة، والمعنى الأخلاقي أو المطلق من جهة أخرى. لو قلت، مثلا، أن هذا الكرسي جيد، فهذا يعنى أن هذا الكرسي يؤدي غاية محددة سلفا، وأن كلمة جيد هنا لها معنى فقط بقدر ما كانت تلك الغاية قد حُددت سلفا لهذا الأمر. وفي الواقع كلمة جيد بمعناها النسبي تعني ببساطة الإحالة إلى نوع من المقياس المحدد سلفا. بالتالي عندما نقول إن هذا الإنسان عازف بيانو جيد، فإننا نعني أنه يستطيع أن يعزف مقطوعات على درجة من الصعوبة وعلى درجة من المهارة. وبصفة مماثلة إذا قلت أنه من المهم لي أن لا يصيبني الزكام، فإني أعني أن الإصابة بالزكام تنتج عددا من الاختلالات التي يمكن وصفها في حياتي اليومية، وإذا قلت أن هذه هي السبيل الجيدة أقصد أنها السبيل الجيدة بالنسبة لنوع من الغايات.
الآن، أول ما يخطر على بال الشخص أمام هذه العبارات أن كل واحدة منها مستعملة بمعنيين مختلفين للغاية. أسميهما المعنى التقليدي أو النسبي من جهة، والمعنى الأخلاقي أو المطلق من جهة أخرى. لو قلت، مثلا، أن هذا الكرسي جيد، فهذا يعنى أن هذا الكرسي يؤدي غاية محددة سلفا، وأن كلمة جيد هنا لها معنى فقط بقدر ما كانت تلك الغاية قد حُددت سلفا لهذا الأمر. وفي الواقع كلمة جيد بمعناها النسبي تعني ببساطة الإحالة إلى نوع من المقياس المحدد سلفا. بالتالي عندما نقول إن هذا الإنسان عازف بيانو جيد، فإننا نعني أنه يستطيع أن يعزف مقطوعات على درجة من الصعوبة وعلى درجة من المهارة. وبصفة مماثلة إذا قلت أنه من المهم لي أن لا يصيبني الزكام، فإني أعني أن الإصابة بالزكام تنتج عددا من الاختلالات التي يمكن وصفها في حياتي اليومية، وإذا قلت أن هذه هي السبيل الجيدة أقصد أنها السبيل الجيدة بالنسبة لنوع من الغايات.
Line 32: Line 32:
مستعملة بهذا المعنى، لا تطرح هذه العبارات أي مشكل صعب أو عميق. لكن ليس بهذه الصفة يستعملها علم الأخلاق. لنفترض أنه بإمكاني لعب التنس وأن أحدكم شاهدني ألعب وقال لي "حسنًا، طريقة لعبك سيئة" ولنفترض أنني أجبته "أعلم، أنا ألعب بطريقة سيئة لكن لا أريد أن ألعب بأحسن منها"، وقال، وهذا كل ما يمكنه قوله "حسنًا، جيد". لكن لنفترض أنني أخبرت أحدكم كذبة كبيرة وأنه أتى إلي وقال لي "إنك تتصرف بفظاظة" وأني أجبته "أعلم أني أتصرف بسوء لكن في الوقت نفسه لا أريد أن أتصرف أحسن من ذلك"، فهل بإمكانه الإجابة "حسنًا، جيد"؟ قطعًا لا؛ سيجيب "جيد، واجب عليك أن ترغب في التصرف على نحو حسن". هنا لديكم حكم قيمة مطلق، في حين أن المثال الأول كان حكمًا من الأحكام النسبية.  
مستعملة بهذا المعنى، لا تطرح هذه العبارات أي مشكل صعب أو عميق. لكن ليس بهذه الصفة يستعملها علم الأخلاق. لنفترض أنه بإمكاني لعب التنس وأن أحدكم شاهدني ألعب وقال لي "حسنًا، طريقة لعبك سيئة" ولنفترض أنني أجبته "أعلم، أنا ألعب بطريقة سيئة لكن لا أريد أن ألعب بأحسن منها"، وقال، وهذا كل ما يمكنه قوله "حسنًا، جيد". لكن لنفترض أنني أخبرت أحدكم كذبة كبيرة وأنه أتى إلي وقال لي "إنك تتصرف بفظاظة" وأني أجبته "أعلم أني أتصرف بسوء لكن في الوقت نفسه لا أريد أن أتصرف أحسن من ذلك"، فهل بإمكانه الإجابة "حسنًا، جيد"؟ قطعًا لا؛ سيجيب "جيد، واجب عليك أن ترغب في التصرف على نحو حسن". هنا لديكم حكم قيمة مطلق، في حين أن المثال الأول كان حكمًا من الأحكام النسبية.  


ماهية هذا الاختلاف تبدو ببداهة كالتالي: كل حكم قيمة نسبية هو حالة وقائع بسيطة وبإمكانها بالتالي أن تكون مصاغة بصفة تفقد أي مظهر حكم قيمة. بدل القول "هذا هو الطريق الجيد إلى غرانشتر"، كان بإمكاني أيضا القول "هذا هو الطريق الصحيح الذي يجب أن  تسلكه إذا  أردت أن  تصل إلى غرانشستر في وقت قصير" ؛ "هذا الرجل عداء جيد" تعني ببساطة أنه يقطع عددا من الأميال خلال عدد من الدقائق، وهلم جرا.
ماهية هذا الاختلاف تبدو ببداهة كالتالي: كل حكم قيمة نسبية هو حالة وقائع بسيطة وبإمكانها بالتالي أن تكون مصاغة بصفة تفقد أي مظهر حكم قيمة. بدل القول "هذا هو الطريق الجيد إلى غرانشتر"، كان بإمكاني أيضا القول "هذا هو الطريق الصحيح الذي يجب أن تسلكه إذا أردت أن تصل إلى غرانشستر في وقت قصير" ؛ "هذا الرجل عداء جيد" تعني ببساطة أنه يقطع عددا من الأميال خلال عدد من الدقائق، وهلم جرا.


الآن ما أود ادعائه، رغم كل أحكام القيمة النسبية التي يمكن أن  تظهر أنها بيان للوقائع فحسب، أنه لا يمكن لبيان واقعة أن يكون أو يستلزم حكم قيمة مطلق. دعوني أشرح هذا: لنفترض أن أحدا منكم عالم بكل شيء وبالتالي عارف بكل حركات الأبدان في العالم، الأموات  أو الأحياء، وأنه أيضا عارف بكل الحالات الذهنية لكل الكائنات البشرية التي عاشت، ولنفترض أن ذلك الشخص يكتب كل ما يعرفه في كتاب كبير؛ هذا الكتاب سيحتوي على الوصف الكامل للعالم كله؛ إذًا هذا الكتاب لا يحتوي شيئا مما نسميه حكم أخلاقي ولا أي شيء يمكن أن يستلزم منطقيا ذلك الحكم. أكيد سيحتوي كل الأحكام النسبية للقيمة وكل القضايا العلمية الصادقة وفي الواقع كل القضايا الصادقة القابلة للصياغة. لكن كل هذه الوقائع الموصوفة ستكون، بهذا التعبير، عبارات على المستوى نفسه، وبنفس الحال كل القضايا تقع في المستوى نفسه. لا توجد قضايا، بالمعنى المطلق، سامية، مهمة أو عادية.  
الآن ما أود ادعائه، رغم كل أحكام القيمة النسبية التي يمكن أن تظهر أنها بيان للوقائع فحسب، أنه لا يمكن لبيان واقعة أن يكون أو يستلزم حكم قيمة مطلق. دعوني أشرح هذا: لنفترض أن أحدا منكم عالم بكل شيء وبالتالي عارف بكل حركات الأبدان في العالم، الأموات أو الأحياء، وأنه أيضا عارف بكل الحالات الذهنية لكل الكائنات البشرية التي عاشت، ولنفترض أن ذلك الشخص يكتب كل ما يعرفه في كتاب كبير؛ هذا الكتاب سيحتوي على الوصف الكامل للعالم كله؛ إذًا هذا الكتاب لا يحتوي شيئا مما نسميه حكم أخلاقي ولا أي شيء يمكن أن يستلزم منطقيا ذلك الحكم. أكيد سيحتوي كل الأحكام النسبية للقيمة وكل القضايا العلمية الصادقة وفي الواقع كل القضايا الصادقة القابلة للصياغة. لكن كل هذه الوقائع الموصوفة ستكون، بهذا التعبير، عبارات على المستوى نفسه، وبنفس الحال كل القضايا تقع في المستوى نفسه. لا توجد قضايا، بالمعنى المطلق، سامية، مهمة أو عادية.  


الآن، قد يوافقني البعض منكم ويتذكروا قول هاملت: "لا شيء جيد أو سيء، لكن التفكير هو الذي يجعله كذلك ". لكن قد يقودنا هذا أيضا لسوء الفهم. يبدو أن ما يقوله هاملت يستلزم أن الخير والشر، بالرغم من أنهما ليسا ميزات العالم الخارج عنا، صفات لحالاتنا الذهنية. لكن ما أود قوله هو أن الحالة الذهنية، بقدر ما نعني بهذا التعبير الواقعة التي نستطيع وصفها، ليست بالجيدة ولا بالسيئة بالمعنى الأخلاقي. لو نقرأ مثلا في كتاب عالمنا وصفًا لجريمة قتل بكل تفاصيلها الفيزيائية والسيكولوجية، فإن الوصف البسيط لهذه الوقائع لا يحتوي على أي شيء يمكننا أن نسميه قضية أخلاقية. القتل سيوضع تماما في نفس مستوى أي حادث آخر، مثلا سقوط حجر. أكيد قراءة الوصف قد تسبب لنا التعب أو الغضب أو أي إحساس آخر، أو يمكننا أيضا أن نرى التعب أو الغضب لدى الآخرين عند قراءة الوصف، لكن ستكون هناك وقائع، ووقائع، ووقائع، لكن ليس ثمة أخلاق.
الآن، قد يوافقني البعض منكم ويتذكروا قول هاملت: "لا شيء جيد أو سيء، لكن التفكير هو الذي يجعله كذلك ". لكن قد يقودنا هذا أيضا لسوء الفهم. يبدو أن ما يقوله هاملت يستلزم أن الخير والشر، بالرغم من أنهما ليسا ميزات العالم الخارج عنا، صفات لحالاتنا الذهنية. لكن ما أود قوله هو أن الحالة الذهنية، بقدر ما نعني بهذا التعبير الواقعة التي نستطيع وصفها، ليست بالجيدة ولا بالسيئة بالمعنى الأخلاقي. لو نقرأ مثلا في كتاب عالمنا وصفًا لجريمة قتل بكل تفاصيلها الفيزيائية والسيكولوجية، فإن الوصف البسيط لهذه الوقائع لا يحتوي على أي شيء يمكننا أن نسميه قضية أخلاقية. القتل سيوضع تماما في نفس مستوى أي حادث آخر، مثلا سقوط حجر. أكيد قراءة الوصف قد تسبب لنا التعب أو الغضب أو أي إحساس آخر، أو يمكننا أيضا أن نرى التعب أو الغضب لدى الآخرين عند قراءة الوصف، لكن ستكون هناك وقائع، ووقائع، ووقائع، لكن ليس ثمة أخلاق.
Line 52: Line 52:
الآن نفس الشيء ينطبق على التجربة الأخرى التي أشرت إليها، وهي المتعلقة بالأمان المطلق. أنا في أمان داخل غرفتي، أي لا أكون معرضا لخطر الصدم من طرف حافلة. أنا في أمان عندما لا أكون معرضا للإصابة بالسعال الديكي الذي كان قد أصابني. أن نكون في أمان يعني عموما استحالة التعرض فيزيائيا لبعض الأمور وبالتالي بهذا المعنى سيكون من اللامعنى القول إنني في أمان مهما حدث. هنا أيضا ثمة سوء استعمال لعبارة "في أمان"، مثل سوء استعمال كلمات "وجود" أو "اندهاش" في المثال الآخر.
الآن نفس الشيء ينطبق على التجربة الأخرى التي أشرت إليها، وهي المتعلقة بالأمان المطلق. أنا في أمان داخل غرفتي، أي لا أكون معرضا لخطر الصدم من طرف حافلة. أنا في أمان عندما لا أكون معرضا للإصابة بالسعال الديكي الذي كان قد أصابني. أن نكون في أمان يعني عموما استحالة التعرض فيزيائيا لبعض الأمور وبالتالي بهذا المعنى سيكون من اللامعنى القول إنني في أمان مهما حدث. هنا أيضا ثمة سوء استعمال لعبارة "في أمان"، مثل سوء استعمال كلمات "وجود" أو "اندهاش" في المثال الآخر.


الآن،  أود أن أجعلكم تفهمون أن نوعا من سوء استعمال اللغة يميز كل عباراتنا الأخلاقية والدينية. كل هذه العبارات تبدو للوهلة الأولى ببساطة مجرد تشبيهات. بذلك يبدو أنه عندما نستخدم كلمة صحيح بمعنى أخلاقي، رغم أن ما نقصده ليس "صحيح " بالمعنى العادي، إلا أنه شيء مشابه، وحين نقول "إنه شخص جيد"، رغم أن الكلمة هنا لا تعني ما تعنيه في الجملة "إنه لاعب كرة جيد"، فإنه يبدو لنا أن هناك بعض التشابه. وحينما نقول "حياة هذا الشخص لها قيمة" فإننا لا نقصدها بنفس المعنى الذي نستخدمه حين نريد الحديث عن بعض المجوهرات ذات القيمة، غير أنه يبدو أن هناك نوعًا من التشابه.
الآن، أود أن أجعلكم تفهمون أن نوعا من سوء استعمال اللغة يميز كل عباراتنا الأخلاقية والدينية. كل هذه العبارات تبدو للوهلة الأولى ببساطة مجرد تشبيهات. بذلك يبدو أنه عندما نستخدم كلمة صحيح بمعنى أخلاقي، رغم أن ما نقصده ليس "صحيح " بالمعنى العادي، إلا أنه شيء مشابه، وحين نقول "إنه شخص جيد"، رغم أن الكلمة هنا لا تعني ما تعنيه في الجملة "إنه لاعب كرة جيد"، فإنه يبدو لنا أن هناك بعض التشابه. وحينما نقول "حياة هذا الشخص لها قيمة" فإننا لا نقصدها بنفس المعنى الذي نستخدمه حين نريد الحديث عن بعض المجوهرات ذات القيمة، غير أنه يبدو أن هناك نوعًا من التشابه.


الآن كل المصطلحات الدينية تبدو بهذا المعنى مستخدمة كتشبيهات أو بطريقة مجازية. لأنه عندما نتحدث عن الله ونقول إنه يرى كل شيء وعندما نسجد ونصلي له فإن كل عباراتنا وأفعالنا تبدو أنها جزء من مجاز كبير يمثل الله ككائن بشري له سلطة كبيرة نحاول كسب فضله وما إلى ذلك. لكن هذا المجاز يصف أيضا التجارب التي أحيل إليها. لأن الأولى منها، كما أعتقد، هي بالضبط التي يرجع إليها الناس حينما يقولون إن الله خلق العالم؛ وتجربة الأمان كانت موصوفة بفكرة أننا نشعر بالأمان بين يدي الله. تجربة أخرى من نفس النمط وهي الشعور بالذنب، ومرة  أخرى هذا كان موصوفا بالجملة التي مفادها أن الله يرفض سلوكنا. لذلك في اللغة الأخلاقية والدينية نبدو أننا نستخدم دائما التشبيهات. لكن التشبيه يجب أن يكون دائما تشبيه لشيء. وإذا استطعت وصف ذلك الشيء بواسطة التشبيه وجب علي أيضا القدرة على ترك التشبيه ووصف الوقائع بدونه. الآن في حالتنا، بمجرد أن نحاول ترك التشبيه وتبني ببساطة الوقائع الموجودة وراءه، نرى عدم وجود تلك الوقائع. وبذلك ما يبدو للوهلة الأولى تشبيها، يظهر الآن مجرد لغو.
الآن كل المصطلحات الدينية تبدو بهذا المعنى مستخدمة كتشبيهات أو بطريقة مجازية. لأنه عندما نتحدث عن الله ونقول إنه يرى كل شيء وعندما نسجد ونصلي له فإن كل عباراتنا وأفعالنا تبدو أنها جزء من مجاز كبير يمثل الله ككائن بشري له سلطة كبيرة نحاول كسب فضله وما إلى ذلك. لكن هذا المجاز يصف أيضا التجارب التي أحيل إليها. لأن الأولى منها، كما أعتقد، هي بالضبط التي يرجع إليها الناس حينما يقولون إن الله خلق العالم؛ وتجربة الأمان كانت موصوفة بفكرة أننا نشعر بالأمان بين يدي الله. تجربة أخرى من نفس النمط وهي الشعور بالذنب، ومرة  أخرى هذا كان موصوفا بالجملة التي مفادها أن الله يرفض سلوكنا. لذلك في اللغة الأخلاقية والدينية نبدو أننا نستخدم دائما التشبيهات. لكن التشبيه يجب أن يكون دائما تشبيه لشيء. وإذا استطعت وصف ذلك الشيء بواسطة التشبيه وجب علي أيضا القدرة على ترك التشبيه ووصف الوقائع بدونه. الآن في حالتنا، بمجرد أن نحاول ترك التشبيه وتبني ببساطة الوقائع الموجودة وراءه، نرى عدم وجود تلك الوقائع. وبذلك ما يبدو للوهلة الأولى تشبيها، يظهر الآن مجرد لغو.
Line 60: Line 60:
مع ذلك سأحاول حل هذه المفارقة بالطريقة التالية. اسمحوا لي مرة أخرى أن أفكر في تجربتنا الأولى المتعلقة بالدهشة من وجود العالم ودعوني أصفها بطريقة مختلفة نوعا ما؛ نعرف جميعا ما يدعى معجزة في الحياة اليومية. الأمر يتعلق طبعا بحدث لم نر مثله أبدًا. الآن، لنفترض أن حدث كهذا قد طرأ. خذوا مثلا حالة يجد فيها أحدكم نفسه برأس أسد يزأر. أكيد سيوصف هذا أنه شيء غير عادي، كما أتصور. الآن وبمجرد تعافينا من مفاجئتنا، فإن ما أقترحه هو إحضار طبيب ليجري تحقيقا علميا عن الحالة، وقد نطلب تشريحها، لولا خشية التسبب بالأذى له. ما شأن المعجزة حينها؟
مع ذلك سأحاول حل هذه المفارقة بالطريقة التالية. اسمحوا لي مرة أخرى أن أفكر في تجربتنا الأولى المتعلقة بالدهشة من وجود العالم ودعوني أصفها بطريقة مختلفة نوعا ما؛ نعرف جميعا ما يدعى معجزة في الحياة اليومية. الأمر يتعلق طبعا بحدث لم نر مثله أبدًا. الآن، لنفترض أن حدث كهذا قد طرأ. خذوا مثلا حالة يجد فيها أحدكم نفسه برأس أسد يزأر. أكيد سيوصف هذا أنه شيء غير عادي، كما أتصور. الآن وبمجرد تعافينا من مفاجئتنا، فإن ما أقترحه هو إحضار طبيب ليجري تحقيقا علميا عن الحالة، وقد نطلب تشريحها، لولا خشية التسبب بالأذى له. ما شأن المعجزة حينها؟


لأنه من الواضح  إننا عندما ننظر إلى الشيء بهذه الطريقة فإن كل ما هو إعجازي سيزول؛ إلا  إذا كان ما نريد قوله بهذا المصطلح هو ببساطة أن واقعة لم يتم تفسيرها بعد بواسطة العلم، ما يعني بدوره أننا فشلنا لحد الآن في جمع هذه الواقعة مع وقائع أخرى في إطار نسق علمي. هذا يبين أنه من غير المعقول قول "أثبت العلم عدم وجود المعجزات ". الحقيقة هي أن الطريقة العلمية للنظر إلى الواقعة ليست طريقة النظر إليها كونها معجزة. لأنه بإمكانكم تصور أية واقعة تريدون مهما كانت، فلن تكون إعجازية في ذاتها بالمعنى المطلق للمصطلح. لأننا نرى أنه بإمكاننا استخدام كلمة "معجزة " بالمعنى النسبي أو  بالمعنى المطلق. وسأصف الآن تجربة الدهشة من وجود العالم بالقول: هي تجربة النظر إلى العالم كمعجزة .
لأنه من الواضح  إننا عندما ننظر إلى الشيء بهذه الطريقة فإن كل ما هو إعجازي سيزول؛ إلا إذا كان ما نريد قوله بهذا المصطلح هو ببساطة أن واقعة لم يتم تفسيرها بعد بواسطة العلم، ما يعني بدوره أننا فشلنا لحد الآن في جمع هذه الواقعة مع وقائع أخرى في إطار نسق علمي. هذا يبين أنه من غير المعقول قول "أثبت العلم عدم وجود المعجزات ". الحقيقة هي أن الطريقة العلمية للنظر إلى الواقعة ليست طريقة النظر إليها كونها معجزة. لأنه بإمكانكم تصور أية واقعة تريدون مهما كانت، فلن تكون إعجازية في ذاتها بالمعنى المطلق للمصطلح. لأننا نرى أنه بإمكاننا استخدام كلمة "معجزة " بالمعنى النسبي أو بالمعنى المطلق. وسأصف الآن تجربة الدهشة من وجود العالم بالقول: هي تجربة النظر إلى العالم كمعجزة .


الآن سأميل الى القول إن العبارة الجيدة في اللغة فيما يتعلق بمعجزة وجود العالم التي رغم ذلك ليست قضية في اللغة، هي وجود اللغة ذاتها. لكن ماذا يعني أن ندرك أحيانا هذه المعجزة وأحيانا لا؟ لأن كل ما قلته مرورا من عبارة الإعجاز بواسطة اللغة إلى التعبير عنه بواسطة وجود اللغة، كل ما قلته هو مرة أخرى أننا لا نستطيع الإفصاح عما نريد الإفصاح عنه وأن كل ما نقوله عن الإعجاز بصفة مطلقة يبقى من اللغو.
الآن سأميل الى القول إن العبارة الجيدة في اللغة فيما يتعلق بمعجزة وجود العالم التي رغم ذلك ليست قضية في اللغة، هي وجود اللغة ذاتها. لكن ماذا يعني أن ندرك أحيانا هذه المعجزة وأحيانا لا؟ لأن كل ما قلته مرورا من عبارة الإعجاز بواسطة اللغة إلى التعبير عنه بواسطة وجود اللغة، كل ما قلته هو مرة أخرى أننا لا نستطيع الإفصاح عما نريد الإفصاح عنه وأن كل ما نقوله عن الإعجاز بصفة مطلقة يبقى من اللغو.